بسم الله الرحمن الرحيم
( إذا جاء نصر الله والفتح ( 1 ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( 2 ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ( 3 ) )
مقدمةسميت هذه السورة في كلام السلف ( سورة إذا جاء نصر الله والفتح ) . روى البخاري ( أن عائشة قالت : لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح ) الحديث .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير ( سورة النصر ) لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .وهي معنونة في جامع الترمذي ( سورة الفتح ) لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين إنا فتحنا لك فتحا مبينا .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في الإتقان ; لما فيها من الإيماء إلى وداعه - صلى الله عليه وسلم - اهـ . يعني : من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة .وهي مدنية بالاتفاق .
واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبيء - صلى الله عليه وسلم - من خيبر أي : في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء نصر أهل اليمن . فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية اهـ ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر .ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة ، وعليه فالفتح [ ص: 588 ] مستقبل ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال ( إذا ) ويحمل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ( جاء نصر الله والفتح ) على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه ، أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين .وقال الواحدي عن ابن عباس ( نزلت منصرفه من حنين ) ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون ( إذا ) مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق ( أي : عام حجة الوداع ) . وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف . وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا .وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون ( إذا ) مستعملة للزمن الماضي ; لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها ، إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا ، فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له قال : إذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره .
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثلما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه : ( لما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وقال : إنه قد نعيت إلي نفسي فبكت ) إلخ ، فإن قوله : " لما نزلت " مدرج من الراوي ، وإنما هو [ ص: 589 ] إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين ، فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور وقال : نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور . وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر .
وعن ابن عباس ، أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى .وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات ، وأقصر من سورة العصر . وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات . وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن ( إنا أعطيناك الكوثر ) و ( إذا جاء نصر الله والفتح ) .
أغراض السورة والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبيء - صلى الله عليه وسلم - من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه .
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآخرة .ووعده بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله : يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
إذا جاء نصر الله والفتح ( 1 ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( 2 ) فسبح بحمد ربك واستغفره( إذا ) اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو . فـ ( إذا ) اسم زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا . ولذلك يضمن معنى الشرط غالبا ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى : وهو على جمعهم إذا يشاء قدير .
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن ( إذا ) معنى الشرط حينئذ ، وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها .و ( إذا ) هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء بقوله : فسبح بحمد ربك وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت .
والنصر : الإعانة على العدو . ونصر الله يعقبه التغلب على العدو . والفتح : امتلاك بلد العدو وأرضه ; لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور ، قال لبيد :وأجن عورات الثغور ظلامها
وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .
فإضافة ( نصر ) إلى ( الله ) تشعر بتعظيم هذا النصر ، وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها . و ( جاء ) مستعمل في معنى : حصل وتحقق مجازا .[ ص: 591 ] والتعريف في ( الفتح ) للعهد وقد وعد الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - به غير مرة من ذلك قوله تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . وهذه الآية نزلت عام الحديبية ، وذلك قبل نزول سورة إذا جاء نصر الله على جميع الأقوال .
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعني : الحصون . وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم ، فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد ، وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون : إن ظهر محمد على قومه فهو نبي . وتكرر أن صد بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام ، عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك .أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : " لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة ، فيقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبيء " .
وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم ، فليس لنا به يدان ، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا . فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة ، يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها .ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام ، وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود .
وعلى ما روي عن ابن عمر ( أنها نزلت في حجة الوداع ) يكون تعليق جملة ( فسبح بحمد ربك ) على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل ، أي : إذا [ ص: 592 ] تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد من قال من المفسرين ( إذا ) بمعنى ( قد ) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست ( إذا ) مما يأتي بمعنى ( قد ) .والرؤية في قوله : ورأيت الناس يجوز أن تكون علمية ، أي : وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم . فيكون جملة ( يدخلون ) في محل المفعول الثاني لـ ( رأيت ) .
ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع ، وقد رأى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع ، فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة ( يدخلون ) في موضع الحال من الناس .و دين الله هو الإسلام لقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وقوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .
والدخول في الدين : مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن تلك الشهادة . فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف ، ففيه استعارة أخرى تصريحية .والناس : اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله في سورة البقرة ، وإذا عرف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو الذين قال لهم الناس ، واحتملت الجنس نحو إن الناس قد جمعوا لكم واحتملت الاستغراق نحو ومن الناس من يقول ونحو قل أعوذ برب الناس .
والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي ، أي : جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينين ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل [ ص: 593 ] المشاهدة ، فالمعنى : ورأيت ناسا كثيرين أو رأيت العرب .قال ابن عطية : قال أبو عمر بن عبد البر النمري - رحمه الله - في كتاب الاستيعاب في باب خراش الهذلي : " لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف ، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده " اهـ . وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن ; لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام ، وهم تغلب وغسان في مشارف الشام ، وكذلك لخم وكلب من العراق ، فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون في دين الله رؤية بصرية .
ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك إن جعلنا الرؤية علمية .والأفواج : جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم في سورة ص ، أي : يدخلون في الإسلام ، وانتصب ( أفواجا ) على الحال من ضمير ( يدخلون ) .
وجملة فسبح بحمد ربك جواب ( إذا ) باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط ، وفعل ( فسبح ) هو العامل في ( إذا ) النصب على الظرفية ، والفاء رابطة للجواب ; لأنه فعل إنشاء .وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد ; لأن باء المصاحبة بمعنى ( مع ) فهي مثل ( مع ) في أنها تدخل على المتبوع ، فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه ; لأن شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قد فعله ، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره .
ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك ، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى :[ ص: 594 ]
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت :
إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه عن تعرضه الثناء
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخلو عن تسبيح الله ، فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام .
وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب ( إذا ) ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في فسبح بحمد ربك ، فيدل على أنه استغفار خاص ; لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقد قال : ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل ، وهو التهيؤ للقاء الله ، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء ، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رفع درجاته عند ربه ، فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة ، أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه ، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة ، فعوتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى الآية ، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية .والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك ، وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود ، فعن مقاتل : ( لما نزلت قرأها [ ص: 595 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس ، فقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عم ؟ قال : نعيت إليك نفسك . فقال : إنه لكما تقول . ) وفي رواية : نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما ، فقالا : فيه نعي رسول الله ، فقال النبيء - صلى الله عليه وسلم : صدقتما نعيت إلي نفسي .
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس : كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم ، فوجد بعضهم من ذلك ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة إذا جاء نصر الله والفتح فقالوا : أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال : إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة موتك ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه .وقال في الكشاف : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل . فعلم أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا اهـ .
قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : " الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة " اهـ . ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية الكشاف والثانية عند خطبة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في مرضه .وعن ابن مسعود أن هذه السورة تسمى سورة التوديع أي : لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار ; لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم ، فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده ، فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده ; لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه .[ ص: 596 ] ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : إذا جاء نصر الله فعدل على الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما في صفة ( رب ) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته ، فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ; لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال .
وقد انتهى الكلام عند قوله ( واستغفره ) وقد روي ( أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان في قراءته يقف عند ( واستغفره ) ثم يكمل السورة ) .